صعود اليمين الشعبوي في أوروبا- الأسباب والانعكاسات والمخاطر

شهدت الانتخابات الأوروبية صعودًا لافتًا لأحزاب اليمين الشعبوي، مما يضع المؤسسة الأوروبية، المسؤولة عن رسم استراتيجيات الاتحاد، وعلاقاته الخارجية، ومستقبله السياسي والاقتصادي، أمام تحديات جمة. هذه الانتخابات جرت في ظل ظروف إقليمية ودولية متقلبة، طبعت المشهد الأوروبي والعالمي في الآونة الأخيرة.
تظهر النتائج الأولية تفوق اليمين الشعبوي، ففي فرنسا، تصدر "التجمع الوطني" النتائج بنسبة 32 في المائة، متقدمًا على حزب الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي سارع إلى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة. وفي ألمانيا، حل حزب "البديل من أجل ألمانيا" في المرتبة الثانية، متجاوزًا الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يتزعمه المستشار أولاف شولتس، وإن كان متخلفًا عن الاتحاد الديمقراطي المسيحي وشقيقه البافاري (CSU) بنسبة 16 في المائة. هذا الصعود شمل معظم أحزاب اليمين الشعبوي في مختلف أنحاء القارة العجوز.
لا شك أن نتائج اليمين الشعبوي ستعيد رسم الخرائط السياسية في البرلمان الأوروبي وفي العديد من الدول الأعضاء. على المديين المتوسط والبعيد، قد يؤدي ذلك إلى اختلال التوازنات السياسية المستقرة منذ عقود، وذلك بسبب توسع القاعدة الانتخابية لليمين المتطرف في دول محورية مثل ألمانيا وفرنسا. كما أن حضوره المؤسساتي المتزايد داخل الاتحاد الأوروبي سيؤثر حتمًا على التشريعات والقوانين، وعلى السياسات الخارجية للاتحاد وعلاقاته التجارية والاقتصادية.
في المدى المتوسط، يمكن توقع هيمنة متزايدة لليمين الشعبوي على السلطة، خاصة مع تآكل القواعد السياسية التقليدية وتراجع حظوظها، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة للتوترات والحروب، سواء في أوكرانيا أو غيرها. وهذا الاتجاه المجتمعي نحو اليمين المتطرف يستدعي دراسة متأنية لأسبابه وعوامله، وتقييمًا دقيقًا لمخاطره المستقبلية.
كيف يمكن فهم هذه المتغيرات المتسارعة، وما هي العوامل التي أدت إلى صعود اليمين المتطرف أو الشعبوي؟ وما هي انعكاسات ذلك على مستقبل أوروبا، وخاصة على سياسات الهجرة والموقف من الإسلام والمسلمين؟ وما هو الدور الذي يجب أن يلعبه المهاجرون أو المنحدرون من أصول مهاجرة في هذا السياق، للحد من الآثار السلبية المحتملة؟
لقد استثمرت أحزاب اليمين المتطرف بذكاء في الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا، موجهة الأنظار بخطاب شعبوي популистский نحو قضايا الهجرة واللجوء، معتبرة إياها مصدر التهديد الأكبر.
عوامل صعود اليمين المتطرف
هناك عوامل عديدة ساهمت في صعود شعبية اليمين المتطرف، منها عوامل موضوعية تتعلق بالتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها أوروبا، ومنها محفزات خارجية مرتبطة بالتطرف، وكلها تلعب دورًا في تغذية الإقبال على اليمين المتطرف.
الأزمتان: السياسية والاقتصادية
الأزمة الاقتصادية العالمية أدت إلى تدهور مستوى المعيشة والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في العديد من الدول الأوروبية، مما أثار الشكوك لدى المواطنين في الخيارات السياسية التقليدية بين اليمين واليسار والوسط.
في هذا السياق، استغلت أحزاب اليمين المتطرف الأزمة الاقتصادية ببراعة، من خلال تركيز الاهتمام على قضايا الهجرة واللجوء، والمكونات الاجتماعية والثقافية التي تعود أصولها إلى بلدان أجنبية. وقدمت حلولًا للأزمة الاقتصادية والاجتماعية تربطها بتشديد القيود على الهجرة وتأكيد مفهوم "أوروبا للأوروبيين" في مجالات التشغيل والاقتصاد والعمالة، وكذلك في سياسات الهجرة والحريات الدينية والثقافية.
هذا النهج يهدد التقاليد السياسية والثقافية والحقوقية في أوروبا، ويضر بالنسيج الاجتماعي والتعددية والتنوع، التي كانت الخطابات السياسية والفكرية في أوروبا تعتبرها نموذجًا يحتذى به ومعيارًا للديمقراطية الليبرالية.
اليمين المتطرف يستخدم آليات الديمقراطية للوصول إلى السلطة، لكن خياراته السياسية والاجتماعية، ذات الطابع الشمولي المغلق، تعزز الإقصاء وقد تعيد أوروبا إلى عهد الشموليات والتطرف الأيديولوجي والسياسي الذي عرفته في مطلع القرن العشرين.
إضافة إلى ذلك، يلغي اليمين المتطرف دور المواطنين الأوروبيين من أصول مهاجرة، مسلمين وغير مسلمين، في الإسهام في الاقتصاد والثقافة والمجتمع. هذه السمة تميز كل الحركات الشعبوية ذات النزعة الأصولية، من الهند مع حزب "بهاراتيا جاناتا" بزعامة ناريندرا مودي، إلى الولايات المتحدة مع ترامب، وأوروبا الشرقية وغيرها من الدول التي ظهر فيها زعماء شعبويون ينشرون الكراهية والتطرف والتوتر والقلق بخطاباتهم التحريضية، وهو ما يتجلى في ظاهرة اليمين المتطرف في أوروبا.
الشعبوية وانتعاش اليمين المتطرف
انتعش اليمين المتطرف بقوة مع تصدر الشعبوية للمشهد السياسي في العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة مع ترامب. الشعبوية تعكس في العادة فشل البعد العقلاني في السياسة، وتتميز بتجنب طرح الأسباب الجذرية للمشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والاستعاضة عنها بتبسيط مخل يستثمر في إذكاء الخوف والكراهية من الآخر، بهدف حشد الجمهور الغاضب وتوجيه خياراته السياسية من خلال البروباغندا الإعلامية والسياسية التي تستغل سيكولوجية الجماهير.
في لحظات الاضطراب، تصبح اختيارات الجمهور أقل عقلانية وأكثر ميلًا نحو الخطابات التي تستثير العواطف وتلهب الشعور الجماعي بوعود زائفة لا تحمل إلا الانغلاق والانكفاء على الذات، في حين أن الأزمة الحقيقية تكمن في الركود الاقتصادي وتداعيات جائحة كورونا وأزمة التضخم وإفلاس الشركات.
الشعبوية، هذا الداء العضال الذي انتشر كالفطر في الحياة السياسية، أذكى الجانب المظلم من الشعور والوعي داخل المجتمعات الأوروبية، وخدم بشكل أو بآخر أطروحات اليمين المتطرف. وقد تجلى ذلك بوضوح في مقاربة العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية في الصراع السياسي الانتخابي، وعلى منصات الإعلام طيلة العقد الماضي، باعتبارها أزمة هجرة ومهاجرين وقضايا هوياتية تهدد النمط الثقافي والقيمي الأوروبي، مما أدى إلى كراهية الإسلام والمسلمين، الذين يُنظر إليهم على أنهم نقيض جوهري لأوروبا من الناحية القيمية والثقافية.
موجة الإسلاموفوبيا وانجرار المؤسسات والفاعلين إلى خطاب اليمين الشعبوي
في الدول التي يتمدد فيها اليمين المتطرف، مثل فرنسا، هناك تماهي ملحوظ في الخطاب بين التيارات السياسية التقليدية واليمين المتطرف حول قضية "الانعزالية الإسلامية". هذا الخطاب يعمم الأحكام على الظاهرة الدينية والرموز الإسلامية، ويصفها بالتطرف ومعاداة القيم الأوروبية، مما يؤدي إلى تشابه كبير في الخطاب المتداول إعلاميًا وسياسيًا بين مختلف القوى السياسية.
في هذا السياق، اتخذت فرنسا إجراءات تعكس توجهًا إقصائيًا نحو الدين والرموز الدينية، متأثرة بالعلمانية اليعقوبية التي تتبنى مقاربة متشددة تجاه الدين. هذا النهج أدى إلى خلق حالة من التوتر، حيث أصبحت الرموز الدينية الإسلامية هدفًا للسخرية والإهانة في إطار استراتيجيات الفاعلين السياسيين المتنافسين، باستثناء القوى اليسارية التي لم تتبنَ هذا النهج بنفس القدر.
النزعات المتطرفة لليمين تعكس فهمًا خاطئًا للخصوصية الدينية في أوروبا وتاريخها. بعض مظاهر التطرف الإسلامي في فرنسا تعود بجذورها إلى تاريخ فرنسا الاستعماري وسياساتها تجاه الهجرة والاندماج. هذه السياسات تفتقر إلى الاعتراف بالآخر، مما يؤدي إلى استبعاده اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا. بالإضافة إلى ذلك، النموذج العلماني الفرنسي، الذي يرفض التعددية، يختلف عن النماذج الأنجلوساكسونية والألمانية التي تتبنى مقاربة أكثر تسامحًا. العلمانية اليعقوبية نفسها تبدو وكأنها دين بحد ذاتها، مما يؤدي إلى رفض متبادل بين المجتمع والمتطرفين، ويغذي خطاب التطرف اليميني ويعزز حضوره في السياسات والبرامج السياسية، مما يخلق حالة من التوتر المستمر.
الصعود الكبير لليمين المتطرف وإمكانية وصوله إلى السلطة في بعض الدول أثر على الخطاب السياسي للعديد من الأحزاب. فبدلًا من تقديم أطروحات تستوعب التنوع، بدأت أحزاب اليمين التقليدي ووسط اليمين في تبني خطاب يشبه خطاب اليمين الشعبوي، خاصة فيما يتعلق بالمهاجرين وقضايا الهُوية.
على سبيل المثال، تبنّى حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" في ألمانيا بقيادته الجديدة نهجًا مشابهًا لليمين الشعبوي، متأثرًا بتقدم حزب "البديل من أجل ألمانيا". هذا التوجه يعكس تراجعًا عن النهج التعددي الذي اتبعته ألمانيا لعقود، ويعتبره البعض تهديدًا لنمط التعايش والتنوع والديمقراطية في البلاد، مما يزيد من التوترات الاجتماعية.
تقدم لنا الحالة الألمانية مثالًا واضحًا على الاستثمار في الخوف والكراهية تجاه الإسلام من جهة، وعلى تأثير التطرف المتستر بالدين في تغذية التطرف اليميني من جهة أخرى. فوفقًا لتقرير رسمي صادر عن لجنة خبراء باسم وزارة الداخلية في يونيو/حزيران من العام الماضي، تنتشر مواقف سلبية تجاه الإسلام والمسلمين في أوساط المجتمع بنسبة تتجاوز 60 في المائة، أي فردين من كل ثلاثة أفراد. وهذا يعني أن تعزيز التعددية وإضعاف التطرف اليميني كان يجب أن يتم من خلال تنفيذ توصيات التقرير الهامة.
تتجلى الأزمة في أشكال الإساءة للإسلام والمسلمين، والتي وصلت إلى اعتداءات أو محاولات اعتداء، كما حدث مع سياسيين من حزب "البديل من أجل ألمانيا" وانتهت بمقتل شرطي قبل أسبوع. هذا يزيد من تهميش المسلمين في المجتمع الألماني ويخدم أجندات التطرف اليميني. هذا الوضع يسهم في تصاعد حالة الرهاب، والتي ستؤثر بلا شك على نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، وقد تنتشر بشكل أوسع في معظم الدول الأوروبية.
التطرف باسم "الإسلام" في خدمة أجندات التطرف اليميني
التطرف يغذي التطرف الآخر، بمعنى أن التطرف المنسوب للإسلام يساعد بشكل غير مباشر على نمو التطرف اليميني. هذا الأمر يفسر جزئيًا صعود اليمين الشعبوي في أوروبا وزيادة تمثيله في البرلمان الأوروبي. في ألمانيا، يمكن رؤية ذلك من خلال حادثتين: الاعتداء المسلح في مانهايم الذي أدى إلى مقتل شرطي وإصابة آخرين، وأحداث أخرى تضر بصورة الإسلام والمسلمين.
هذه الأحداث الإرهابية في مدن أوروبية متعددة سابقًا ساعدت الإعلام على نشر الكراهية، مما يعزز موقف اليمين الشعبوي، ويزيد من معاداة الإسلام في السياسة والإعلام. حاليًا، ألمانيا تعيش حالة توتر بسبب هذه الأحداث، وبدلًا من تطبيق توصيات تقرير رسمي لمكافحة الكراهية ضد الإسلام، نشهد صعودًا لحزب البديل من أجل ألمانيا.
إن أزمة الخطاب وطبيعة الوعي المنتشر لدى لفيف ممن يحملون ترسبات منغلقة باسم الإسلام، تستدعي نقدًا صريحًا ومكشوفًا من النخب والفاعلين في السياق الأوروبي، لتجنب التوظيف الخاطئ لممارسات فردية طائشة قد تضر بنسيج المكون الاسلامي برمته داخل المجتمع الألماني والأوروبي. ويكفي هنا الإشارة إلى ما أحدثه رفعُ البعض شعارات لا تعبر عن روح وقيم الإسلام السمحة في سياق التضامن مع غزة.
قد لا يهم هنا كثيرًا الموقف الألماني من الحرب على غزة، لكن رفع البعض لافتةً تطالب بعودة الخلافة في مدينة هامبورغ، أو شعارات تؤشر على نزاع عقائدي صرف، يؤشر دلاليًا لدى المتلقي في سياق تعددي، إلى ما هو سلبي.
خلال العقدين الماضيين، لعب الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل الوعي والمواقف تجاه الإسلام والمسلمين في أوروبا. هذا الإعلام غالبًا لا يعكس الطبيعة الحقيقية للإسلام ولا الوعي الديني الإسلامي المتسامح مع روح العصر، مما يؤثر سلبًا على صورة الإسلام والمسلمين في أوروبا.
في نفس الوقت، يخدم هذا الوضع بشكل عملي أطروحات اليمين المتطرف، وستظهر نتائج ذلك في الانتخابات الحالية والمستقبلية. والأسوأ من ذلك هو تعميق الفجوة مع القوى المنصفة وزيادة التوتر مع مرور الوقت، مما يؤدي إلى ردود فعل بدلًا من الإبداع في تحقيق حضور إيجابي وبنّاء يتماشى مع طبيعة المجتمع التعددي والتعايش المشترك. الإسلام والخطاب الديني الإسلامي يمكن أن يقدما أثرًا قيّمًا وأخلاقيًا مهمًا في مواجهة الأزمات الإنسانية المعاصرة.
ختامًا: إن العوامل المؤثرة في صعود اليمين المتطرف عديدة، وفي أغلبها عوامل موضوعية ترتبط بشكل أو بآخر بالأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يفرض معالجة تلك الأسباب الجوهرية وليس البحث في ذرائع أو تبريرات تخفي طبيعة الأزمة. كما يرتبط صعود اليمين المتطرف بظاهرة الشعبوية، وبمناخ التوتر والاضطراب الذي يمر به العالم بأسره، مما أعاد خطاب الهويات والانغلاق إلى الواجهة. لكن الأهم في سياق الحد من المد المتصاعد لليمين، هو الدور الثقافي والسياسي الرشيد الذي يجب أن يضطلع به مسلمو أوروبا، باعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والثقافي للبلدان الأوروبية.
ونشير هنا إلى الحضور السلبي المتمثل في غياب الفاعلية في الأوساط الثقافية والاجتماعية والسياسية، أو السماح لبعض الممارسات أو الخطابات المسيئة أو المتطرفة بالظهور، حيث يؤديان معًا على المدى البعيد إلى تصاعد حدة التوتر واتساع دائرة الكراهية. وإذا استمر هذا الوضع، فستكون أوروبا حتمًا تحت سلطة التطرف اليميني، وما يثير الخوف في هذه النزعة هو جذورها الثقافية والتاريخية التي تذكر بأنماط وتجارب الإقصاء والشموليات التي مرت بها أوروبا والعالم. والمؤسف أن يكون المسلمون وقودًا لهذه النزعة في المستقبل إذا لم يتحقق وعي شامل بالمتغيرات السياسية والثقافية والاقتصادية وما تحمله معها في أوروبا والعالم.
من جانب آخر، فإن وصول اليمين الشعبوي إلى السلطة والحكم في السياق الأوروبي قد يحمل تهديدات ومخاطر جسيمة التأثير مستقبلًا على الاتحاد الأوروبي ككتلة إقليمية مؤثرة إقليميًا ودوليًا، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي. وسيضع أوروبا في حالة ضعف استراتيجي في مواجهة روسيا التي تخوض حربًا ذات أبعاد جيوسياسية في أوكرانيا، كما سيجعل الوجود الأوروبي أمام لحظات حرجة على المستوى الدولي، مع تفاقم الصراع الجيوستراتيجي مع الصين.
